وضعت عملية «طوفان الأقصى»، والعدوان الإسرائيلي غير المسبوق على قطاع غزة، جميع الأطراف المعنيّة بالصراع العربي - الإسرائيلي، من دول وقوى ومؤسسات دولية، أمام امتحان جدّي للمرّة الأولى منذ عقود. وبدت تركيا في مقدمة الأطراف التي ترقَّب المتابعون مسار موقفها في هذا الخصوص، علماً أنه يمكن وصْف ما حدث في السابع من أكتوبر وما تلاه، بأنه «مفاجأة غير سارة» بالنسبة إليها، بعدما عملت، على مدى ثلاث سنوات، على تطبيع علاقاتها مع كلّ خصومها، من الإمارات والسعودية إلى إسرائيل والولايات المتحدة، علّ «المصالحات» تحقّق انفراجة للاقتصاد التركي المنهار، في مقابل تغيير موقف أنقرة إزاء بعض الملفّات. ومن بعد «طوفان الأقصى»، خشيت تركيا أن يؤثّر ما حدث على مسار التطبيع، فكان أن اتّخذت موقفاً رسميّاً حياديّاً في الأيام الأولى للحرب، بدأ يتغيّر تحت ضغط الاحتجاجات والانتقادات الداخلية، ووصل إلى رفع السقف كلاميّاً، ووصْف إسرائيل من قِبَل إردوغان بأنها «مجرمة حرب»، وبنيامين نتنياهو بأنه «هتلر جديد»، مع رفض الحديث إليه.غير أن الخطاب التركي لم يتجاوز، في حينه، الانتقاد النظري إلى إجراءات عملية، حيث كشفت البيانات الرسمية لوزارة التجارة، أن التجارة بين الجانبَين قائمة على قدم وساق، وأن الشركات التركية تصدّر كل المنتجات الضرورية لإسرائيل من حديد وفولاذ وإسمنت وخضار وفواكه ووقود. كما كشفت حركة الملاحة الدولية أن معدّل السفن التركية التي تصل إلى الموانئ الإسرائيلية (إبّان الحرب) بلغ ثماني سفن يوميّاً، أي ما مجموعه نحو 1500 سفينة خلال أشهر الحرب. ورغم كل الانتقادات في هذا الجانب، ظلّ موقف أنقرة على حاله، ولا سيما أنها أَولت المسار المالي في علاقاتها مع الأطراف المعنية، الأهمية على حساب الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية؛ إذ لم تكن تركيا ترغب في تخريب علاقاتها الاقتصادية الجديدة مع تلك الأطراف، وهي بالكاد دخلت مرحلة «تصحيحها»، كما لم تُرد أن تعود علاقاتها السياسية معها من جديد إلى نقطة الصفر.
العلاقات المتحسّنة بين تركيا ومصر، لا تعني زوال الشوائب منها، ومن ذلك الموقف من حركة «حماس» و«الإخوان المسلمين»


ولكن، في هذا الوقت، وقعت الهزيمة المدوية التي تعرّض لها إردوغان وحزبه، «العدالة والتنمية»، في الانتخابات البلدية، ليدرك أن موقفه من المجازر في غزة، كان من عوامل خسارته الانتخابات. وعلى خلفية ذلك، جاء قرار وزارة التجارة تقليص عدد المنتجات المصدَّرة إلى إسرائيل، اعتباراً من 9 نيسان الجاري. لكن هذه الخطوة ظهرت رمزية؛ فالتقليص لم يشمل كلّ الصادرات، كما أنه لم يُنفّذ عمليّاً، حيث استمرت المنتجات التركية في الوصول إلى إسرائيل من طريق موانئ دول ثالثة. لا بل إن نائب رئيس «العدالة والتنمية»، نهاد زيبقتشي، قال بصراحة، يوم الجمعة الفائت: «(إننا) ندين المجازر، ولكن إسرائيل دولة لنا معها اتفاقات تجارية».
في موازاة ذلك، كان الحَراك الديبلوماسي التركي لا يزال يدور في حلقة مفرغة، مقتصراً على اتصالات ديبلوماسية لم تُعرها إسرائيل ولا الولايات المتحدة اعتباراً جدّياً. ومن هنا، بدا أن أمام أنقرة بوابتَين لاستعادة نشاطها في المنطقة: الأولى، إسرائيل وهي بوابة مقفلة وخصوصاً بعد انتقاد وزير خارجيتها، يسرائيل كاتس، للصورة التي جمعت إردوغان إلى رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، ودعوته الرئيس التركي إلى «أنْ يخجل»؛ والثانية، مصر التي وجدتها تركيا ممرّاً مهمّاً إلى القضية الفلسطينية والصراع في غزة، ما سرّع خطوات التطبيع بين البلدَين؛ فزار وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، القاهرة أكثر من مرّة، وتبعه الرئيس التركي إلى تلك المحطّة. وتلت ذلك زيارات إلى أنقرة لوزير الخارجية المصري، سامح شكري، آخرها قبل يومين، فيما يُرتقب أن يقوم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بزيارة قريبة إلى أنقرة.
غير أن عاملاً جديداً أضيف إلى دوافع التحرّك التركي الأخير، وخصوصاً مع مصر، وهو دخول إيران القويّ على خطّ الصراع في غزة، من بعد الهجوم على قنصليتها في دمشق، والذي أتبعته بردّ واسع من أراضيها على الأراضي المحتلّة، وهو ما كان يمكن أن يُدخل الوضع في الشرق الأوسط في معادلات جديدة وخطيرة. وجاء الردّ الإيراني ليُظهر الموقف العملي للجمهورية الإسلامية، وعنوانه أنها الداعم الرئيس إذا لم يكن الوحيد للقضية الفلسطينية، وليحرج في الوقت عينه القوى الأخرى، ومنها تركيا ومصر، اللتان لم تتجرآ على المس بإسرائيل، رغم حرب الإبادة التي تشنّها على غزة. عندها، بدأ يَظهر تحوُّل جديد في الموقف التركي؛ حيث حمّلت أنقرة، نتنياهو، مسؤولية تصاعد التوتّر في المنطقة بعد الردّ الإيراني، لكنها لم تعطِ «بعبارات واضحة» مشروعية للردّ الإيراني حتى لا تُغضب الولايات المتحدة من جهة، وحتى لا تراكم رصيداً إضافيّاً للدور الإيراني في المنطقة، وخصوصاً أن طهران وجّهت انتقادات إلى أنقرة بسبب علاقاتها المتعدّدة مع إسرائيل، وأيضاً لتبقي الباب مفتوحاً أمام تعويم دورها كوسيط في الصراع العربي - الإسرائيلي.
على أن العلاقات المتحسّنة بين تركيا ومصر، لا تعني زوال الشوائب منها، ومن ذلك الموقف من حركة «حماس» و«الإخوان المسلمين». وبالتالي، فإن ما حُكي عن أن زيارة هنية إلى تركيا كانت من أجل البحث في إمكانية نقل مقرّ الحركة من الدوحة إلى أنقرة، قد لا يثير ارتياح القاهرة ويُعيد الشكوك المصرية القوية في علاقة تركيا بـ«الإخوان». لكن تعمُّد إردوغان الظهور في الصورة مع هنية، أمام وسائل الإعلام، كان رسالة إلى الولايات المتحدة - علماً أنه جاء عشيّة زيارة الرئيس التركي إلى واشنطن في التاسع من أيار المقبل -، مفادها بأن هناك ضرورة لعدم تجاهل بلاده، وبأن لتركيا دوراً يمكن أن تقوم به في أزمات الشرق الأوسط، فضلاً عن أنها جزء من لعبة التنافس مع إيران، وأن «حماس» وجزءاً من القضية الفلسطينية لا يزالان «عندها».